فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{قَالَ الله} كلامٌ مستأنَفٌ خَتَم به حكايةَ ما حُكيَ، مما يقعُ يوم يجمع الله الرسلَ عليهم الصلاة والسلام، وأُشير إلى نتيجته ومآله، أي يقول الله تعالى يومئذ عَقيبَ جواب عيسى عليه السلام، مشيرًا إلى صدقه في ضمن بيان حال الصادقين الذين هو في زمرتهم، وصيغةُ الماضي لما مرَّ في نظائره مرارًا، وقوله تعالى: {هذا} إشارة إلى ذلك اليوم، وهو مبتدأ خبرُه ما بعده، أي هذا اليوم الذي حُكيَ بعضُ ما يقع فيه إجمالًا وبعضُه تفصيلًا {يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين} بالرفع والإضافة، والمراد بالصادقين كما ينبئ عنه الاسم، المستمرّون في الدارين على الصدق في الأمور الدينية التي معظمُها التوحيدُ الذي نحن بصدده، والشرائعُ والأحكام المتعلقة به من الرسل الناطقين بالحق والصدق الداعين إلى ذلك، وبه تحصُل الشهادةُ بصِدْق عيسى عليه السلام، ومن الأمم المصدِّقين لهم المقتدين بهم عقدًا وعملًا، وبه يتحقق المقصودُ بالحكاية من ترغيب السامعين في الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم لا كلِّ من صدَقَ في أي شيء كان، ضرورةَ أن الجانِيَ المعترِفَ في الدنيا بجِنايته لا ينفعُه يومئذ اعترافُه وصِدْقُه {صِدْقُهُمْ} أي صدقهم فيما ذُكر من أمور الدين في الدنيا، إذ هو المستتبِعُ للنفع يومئذ، واعتبارُ استمراره في الدارين مع أنه لا حاجة إليه كما عرفت، ولا دخل له في استتباع النفع والجزاء مما لا وجه له، وهذه القراءةُ هي التي أطبق عليها الجمهورُ وهي الأليق بسياق النظم الكريم وسباقِه، وقد قرئ {يومَ} بالنصب إما على أنه ظرف لقال، فهذا حينئذ إشارةٌ إلى قوله تعالى: {قُلتَ لِلنَّاسِ} الخ، وإما على أنه خبرٌ لهذا، فهو حينئذ إشارة إلى جواب عيسى عليه السلام، أي هذا الجواب منه عليه السلام واقعٌ يوم ينفع الخ، أو إلى السؤال والجواب معًا، وقيل: هو خبر ولكنه بني على الفتح، وليس بصحيح عند البصريين لأنه مضافٌ إلى متمكنَ، وقرئ {يومٌ} بالرفع والتنوين كقوله تعالى: {واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِى} الآية. اهـ.

.قال الألوسي:

{قَالَ الله} كلام مستأنف ختم به حكاية ما حكى مما يقع يوم يجمع الله الرسل عليهم الصلاة والسلام وأشير إلى نتيجته ومآله، وصيغة الماضي لما تحقق، والمراد بقول الله تعالى عقيب جواب عيسى عليه السلام مشيرًا إلى صدقه ضمن بيان حال الصادقين الذين هو في زمرتهم وبذلك يزول أيضًا عنه عليه السلام خوفه من صورة ذلك السؤال لا أن إزالته هي المقصودة من القول على ما قيل.
{هذا} أي اليوم الحاضر {يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين} أي المستمرين على الصدق في الأمور المطلوبة منهم التي معظمها التوحيد الذي نحن بصدده والشرائع والأحكام المتعلقة به من الرسل الناطقين بالحق والصدق الداعين إلى ذلك وبه تحصل الشهادة بصدق عيسى عليه السلام ومن الأمم المصدقين لأولئك الكرام عليهم الصلاة والسلام المقتدين بهم عقدًا وعملًا (وبه يتحقق المقصود بالحكاية (من ترغيب السامعين) في الإيمان) برسول الله صلى الله عليه وسلم {صِدْقُهُمْ} أي فيما ذكر في الدنيا إذ هو المستتبع للنفع والمجازاة يومئذٍ، وقيل: في الآخرة.
والمراد من الصادقين الأمم ومن صدقهم صدقهم في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ وهو ينفعهم لقيامهم فيه بحق الله تعالى وهو كما ترى، وقيل: المراد صدقهم المستمر في دنياهم إلى آخرتهم ليتسنى كون ما ذكر شهادة بصدق عيسى عليه السلام فيما قاله جوابًا عن السؤال على ما يقتضيه السوق، ويكون النفع باعتبار تحققه في الدنيا والمطابقة لما يقتضيه السوق باعتبار تقرره ووقوع بعض جزئياته في الآخرة، والمستمر هو الأمر الكلي الذي هو الاتصاف بالصدق، ولا يلزم من هذا محذور مدخلية الصدق الأخروي في الجزاء، ولا يحتاج إلى جعل الصدق الأخروي شرطًا في نفع الصدق الدنيوي والمجازاة عليه، ولعل فيما تقدم غنى عن هذا كما لا يخفى على الناظر، وقيل: المراد من الصادقين النبيون ومن صدقهم صدقهم في الدنيا بالتبليغ ويكون مساق الآية للشهادة بصدقه عليه السلام في قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ} [المائدة: 117] وأنت تعلم أن هذا الغرض حاصل على تقدير التعميم وزيادة.
وقيل: المراد من الصدق الصدق في الدنيا إلا أن المراد من الصادقين الأمم، والكلام مسوق لرد عرض عيسى عليه السلام المغفرة عليه سبحانه وتعالى كأنه قيل: هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لا غير فلا مغفرة لهؤلاء، ولا يخفى أن التعميم لا ينافي كون الكلام مسوقًا لما ذكر على تقدير تسليم ذلك. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قَالَ الله} جواب عن قول عيسى، فلذلك فصلت الجملة على طريقة الحوار.
والإشارة إلى يوم القيامة وهو حاضر حين تجري هذه المقاولة.
وجملة: {ينفع الصادقين صدقهم} مضاف إليها {يوم}، أي هذا يوم نفْع الصدق. اهـ.

.قال الفخر:

قرأ جمهور القرّاء {يَوْم} بالرفع، وقرأ نافع بالنصب، واختاره أبو عبيدة.
فمن قرأ بالرفع، قال الزجاج: التقدير هذا اليوم يوم منفعة الصادقين، وأما النصب ففيه وجوه:
الأول: على أنه ظرف لقال والتقدير: قال الله هذا القول لعيسى يوم ينفع.
الثاني: أن يكون التقدير: هذا الصدق واقع يوم ينفع الصادقين صدقهم، ويجوز أن تجعل ظروف الزمان أخبارًا عن الأحداث بهذا التأويل كقولك: القتال يوم السبت، والحج يوم عرفة، أي واقع في ذلك اليوم، والثالث: قال الفرّاء: {يَوْمٍ} أضيف إلى ما ليس باسم فبني على الفتح كما في يومئذ.
قال البصريون هذا خطأ لأن الظرف إنما يبنى إذا أضيف إلى المبنى كقول النابغة:
على حين عاتبت المشيب على الصبا

بنى (حين) لإضافته إلى المبنيّ، وهو الفعل الماضي، وكذلك قوله: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ} [الإنفطار: 19] بني لإضافته إلى (لا) وهي مبنية، أما هنا فالإضافة إلى معرب لأن ينفع فعل مستقبل، والفعل المستقبل معرب فالإضافة إليه لا توجب البناء والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

قرأ نافع وابن مُحَيْصِن {يَوْمَ} بالنصب، ورفع الباقون وهي القراءة البيّنة على الابتداء والخبر، فيوم ينفع خبر لـ{هذا} والجملة في موضع نصب بالقول.
وأما قراءة نافع وابن مُحَيْصِن فحكى إبراهيم بن حميد عن محمد بن يزيد أن هذه القراءة لا تجوز، لأنه نصب خبر الإبتداء، ولا يجوز فيه البناء.
وقال إبراهيم بن السَّري: هي جائزة بمعنى قال الله هذا لعيسى ابن مريم يوم ينفع الصادقين صدقهم؛ فـ{يوم} ظرف للقول، و{هذا} مفعول القول والتقدير؛ قال الله هذا القول في يوم ينفع الصادقين.
وقيل: التقدير قال الله عز وجل هذه الأشياء تنفع يوم القيامة.
وقال الكسائي والفَرّاء: بني يوم هاهنا على النصب؛ لأنه مضاف إلى غير اسم؛ كما تقول: مضى يومئذ؛ وأنشد الكِسائي:
على حينَ عاتبتُ المِشيبَ على الصِّبَا ** وقلتُ أَلَمًّا أَصْحُ والشَّيْبُ وازِعُ

الزّجاج: ولا يجيز البصريون ما قالاه إذا أضفت الظرف إلى فعل مضارع.
فإن كان إلى ماض كان جيدًا كما مرّ في البيت، وإنما جاز أن يضاف الفعل إلى ظروف الزمان؛ لأن الفعل بمعنى المصدر.
وقيل: يجوز أن يكون منصوبًا ظرفًا ويكون خبر الابتداء الذي هو {هذا} لأنه مشارٌ به إلى حَدثٍ، وظروف الزمان تكون أخبارًا عن الأحداث، تقول: القتالُ اليوم، والخروج الساعة، والجملة في موضع نصب بالقول.
وقيل: يجوز أن يكون {هذا} في موضع رفع بالابتداء و{يوم} خبر الابتداء والعامل فيه محذوف، والتقدير: قال الله هذا الذي قصصناه يقع يوم ينفع الصادقين صدقهم.
وفيه قراءة ثالثة {يَوْمُ يَنفَعُ} بالتنوين {الصادقين صِدْقُهُمْ} في الكلام حذف تقديره فيه مثل قوله: {واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] وهي قراءة الأعمش. اهـ.

.قال الألوسي:

واسم الإشارة مبتدأ و{يَوْمٍ} بالرفع وهي قراءة الجمهور خبره.
وقرأ نافع وحده {يَوْمٍ} بالنصب على أنه ظرف لقال و{هذا} مبتدأ خبره محذوف أي كلام عيسى عليه السلام أو حق أو نحو ذلك أو ظرف مستقر وقع خبرًا؛ والمعنى هذا الذي مر من جواب عيسى عليه السلام أو السؤال والجواب واقع يوم ينفع، وجوز أن يكون {هذا} مفعولًا به للقول لأنه بمعنى الكلام والقصص أو مفعولًا مطلقًا لأنه بمعنى القول، وقيل: إن {هذا} مبتدأ و{يَوْمٍ} خبره وهو مبني على الفتح بناءً على أن الظرف يبنى عليه إذا أضيف إلى جملة فعلية وإن كانت معربة وهو مذهب الكوفيين واختاره ابن مالك وغيره، والبصريون لا يجيزون البناء إلا إذا صدرت الجملة المضاف إليها بفعل ماض كقوله:
على حين عاتبت المشيب على الصبا

وألحقوا بذلك الفعل المنفي، ويخرجون هذه القراءة على أحد الأوجه السابقة.
وقرأ الأعمش {يَوْمٍ} بالرفع والتنوين على أنه خبر {هذا} والجملة بعده صفته بحذف العائد، وقرأ {صِدْقُهُمْ} بالنصب على أن يكون فاعل {ينفَعُ} ضمير الله تعالى، و{صِدْقُهُمْ} كما قال أبو البقاء إما مفعول له أي لصدقهم أو منصوب بنزع الخافض أي بصدقهم أو مصدر مؤكد أو مفعول به على معنى يصدقون الصدق كقولك: صدقته القتال، والمراد يحققون الصدق. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقد قرأ غير نافع من العشرة {يومُ} مضمومًا ضمّة رفع لأنّه خبرُ {هذا}.
وقرأه نافع مفتوحًا على أنّه مبني على الفتح لإضافته إلى الجملة الفعلية.
وإضافة اسم الزمان إلى الجملة الفعلية تسوّغ بناءه على الفتح، فإن كانت ماضوية فالبناء أكثر، كقول النابغة:
على حينَ عَاتبتُ المشيبَ على الصّبا

وإن كانت مضارعية فالبناء والإعراب جائزان كما في هذه الآية، وهو التحقيق.
وإضافة الظرف إلى الجملة تقتضي أنّ مضمونها يحصل فيه، فنفع الصدق أصحابه حاصل يومئذٍ.
وعموم الصادقين يشمل الصدق الصادر في ذلك اليوم والصادر في الدنيا، فنفع كليهما يظهر يومئذٍ؛ فأمّا نفع الصادر في الدنيا فهو حصول ثوابه، وأمّا نفع الصادر في الآخرة كصدق المسيح فيما قاله فهو برضى الله عن الصادق أو تجنّب غضبه على الذي يكذّبه فلا حيرة في معنى الآية.
والمراد بِ {الصادقين} الذين كان الصدق شعارهم لم يعدلوا عنه.
ومن أوّل مراتب الصدق صدق الاعتقاد بأن لا يعتقدوا ما هو مخالف لما في نفس الأمر ممّا قامَ عليه الدليل العقلي أو الشرعي.
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتّقوا الله وكونوا مع الصادقين} (119).
ومعنى نفع الصدق صاحبه في ذلك اليوم أنّ ذلك اليوم يوم الحقّ فالصادق ينتفع فيه بصدقه، لأنّ الصدق حسن فلا يكون له في الحقّ إلاّ الأثر الحسن، بخلاف الحال في عالم الدنيا عالم حصول الحقّ والباطل فإنّ الحقّ قد يجرّ ضرًّا لصاحبه بتحريف الناس للحقائق، أو بمؤاخذته على ما أخبر به بحيث لو لم يخبر به لما اطّلع عليه أحد.
وأمّا ما يترتّب عليه من الثواب في الآخرة فذلك من النفع الحاصل في يوم القيامة.
وقد ابتلي كعب بن مالك رضي الله عنه في الصدق ثم رأى حُسن مغبَّته في الدنيا.
ومعنى نفع الصدق أنّه إن كان الخبر عن أمر حسن ارتكبه المخبر فالصدق حسن والمخبَر عنه حسن فيكون نفعًا محضًا وعليه جزاءان، كما في قول عيسى: {سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقّ} [المائدة: 116] إلى آخره، وإن كان الخبر عن أمر قبيح فإنّ الصدق لا يزيد المخبر عنه قبحًا لأنّه قد حصل قبيحًا سواء أخبر عنه أم لم يخبر، وكان لقبحه مستحقًّا أثرًا قبيحًا مثله.
وينفع الصدق صاحبه مرتكب ذلك القبيح فيناله جزاء الصدق فيخفّ عنه بعض العقاب بما ازداد من وسائل الإحسان إليه. اهـ.